فصل: في حد الضرورة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال ابن العربي‏:‏ ومحل هذا الخلاف بين المالكية فيما إذا كانت المخمصة نادرة، وأما إذا كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها‏.‏

ومذهب الشافعي على القولين المذكورين عن المالكية، وحجتهما في القولين كحجة المالكية فيهما، وقد بيناها‏.‏ والقولان المذكوران مشهوران عند الشافعية‏.‏

واختار المزني أنه لا يجاوز سد الرمق، ورجحه القفال وكثيرون‏.‏

وقال النووي‏:‏ إنه الصحيح‏.‏ ورجح أبو علي الطبري في الإفصاح والروياني وغيرهما حل الشبع، قاله النووي أيضًا‏.‏

وفي المسألة قول ثالث للشافعية وهو‏:‏ أنه إن كان بعيدًا من العمران حل الشبع وإلا فلا، وذكر إمام الحرمين والغزالي تفصيلاً في المسألة، وهو‏:‏ أنه إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع ألا يقطعها ويهلك، وجب القطع بأنه يشبع، وإن كان في بلد وتوقع طعامًا طاهرًا قبل عود الضرورة وجب القطع بالاقتصار على سدّ الرمق، وإن كان لا يظهر حصول طعام طاهر وأمكن الحاجة إلى العود إلى أكل الميتة مرة بعد أخرى إن لم يجد الطاهر، فهذا محل الخلاف‏.‏

قال النووي‏:‏ وهذا التفصيل الذي ذكره الإمام والغزالي تفصيل حسن وهو الراجح، وعن الإمام أحمد رحمه اللَّه في هذه المسألة روايتان أيضًا‏.‏

قال ابن قدامة في المغني‏:‏ وفي الشبع روايتان‏.‏

أظهرهما‏:‏ لا يباح وهو قول أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك، وأحد القولين للشافعي‏.‏

قال الحسن‏:‏ يأكل قدر ما يقيمه؛ لأن الآية دلت على تحريم الميتة، واستثني ما اضطرّ إليه فإذا اندفعت الضرورة فلم يحلّ له الأكل كحالة الابتداء‏.‏ ولأنه بعد سد الرمفق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية‏.‏ يحققه‏:‏ أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر، وثم لم يبح له الأكل كذا هاهنا‏.‏

والثانية‏:‏ يباح له الشبع‏.‏ اختارها أبو بكر؛ لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً نزل الحرّة فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته‏:‏ أسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله‏.‏ فقال حتى أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال‏:‏ ‏"‏هل عندك غنى يغنيك‏"‏ ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكلوها‏"‏، ولم يفرق رواه أبو داود‏.‏ ويدلّ له أيضًا حديث الفجيع العامري عنده‏:‏ أن النبيّ أذن له في الميتة مع أنه يغتبق ويصطبح، فدلّ على أخذ النفس حاجتها من القوت منها؛ ولأن ما جاز سدّ الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح، ويحتمل أن يفرّق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال، فما كانت مستمرة كحالة الأعرابي الذي سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاز الشبع؛ لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب، ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه، بخلاف التي ليست مستمرة، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل واللَّه أعلم‏.‏ انتهى من المعنى بلفظه‏.‏

وقال إمام الحرمين‏:‏ وليس معنى الشبع أن يمتلىء حتى لا يجد مساغًا، ولكن إذا انكسرت سورة الجوع بحيث لا ينطلق عليه اسم جائع أمسك‏.‏ اهـ‏.‏ قاله النووي‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ حدّ الاضطرار المبيح لأكل الميتة، وهو الخوف من الهلاك علمًا أو ظنًا‏.‏

قال الزرقاني في شرح قول مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏، فيمن يضطر إلى أكل الميتة اهـ‏.‏ وحدّ الاضطرار أن يخاف على نفسه الهلاك علمًا أو ظنًا، ولا يشترط أن يصير إلى حال يشرف معها على الموت، فإن الأكل عند ذلك لايفيد‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ الثانية في حدّ الضرورة‏.‏

قال أصحابنا‏:‏ لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الميتة ونحوها قالوا ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى الإشراف على الهلاك؛ فإن الأكل حينئذ لا ينفع، ولو انتهى إلى تلك الحال لم يحل له أكلها؛ لأنه غير مفيد، واتفقوا على جواز الأكل إذا خاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي، أو عن الركوب، وينقطع عن رفقته ويضيع ونحو ذلك‏.‏

فلو خاف حدوث مرض مخوف في جنسه فهو كخوف الموت، وإن خاف طول المرض فكذلك في أصح الوجهين، وقيل‏:‏ إنهما قولان، ولو عيل صبره، وأجهده الجوع فهل يحل له الميتة ونحوها أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق ‏؟‏ فيه قولان ذكرهما البغوي وغيره، أصحهما‏:‏ الحلّ‏.‏

قال إمام الحرمين وغيره‏:‏ ولا يشترط فيما يخافه تيقن وقوعه لو لم يأكل، بل يكفي غلبة الظن‏.‏ انتهى منه بلفظه‏.‏

وقال ابن قدامة في ‏"‏ المغني ‏"‏‏:‏ إذا ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل، قال أحمد‏:‏ إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من الجوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور‏.‏

وحدّ الاضطرار عند الحنفية هو أن يخاف الهلاك على نفسه أو على عضو من أعضائه يقينًا كان أو ظنًّا، واللَّه تعالى أَعلم‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ هل يجب الأكل من الميتة ونحوها إن خاف الهلاك، أو يباح من غير وجوب ‏؟‏ اختلف العلماء في ذلك، وأظهر القولين الوجوب؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏‏.‏

ومن هنا قال جمع من أهل الأصول‏:‏ إن الرخصة قد تكون واجبة، كأكل الميتة عند خوف الهلاك لو لم يأكل منها، وهو الصحيح من مذهب مالك، وهو أحد الوجهين للشافعية، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة أيضًا، وهو اختيار ابن حامد، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمهم اللَّه، وقال مسروق‏:‏ من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات، دخل النار، إلا أن يعفو اللَّه عنه‏.‏

وقال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا‏:‏ وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا، نقله القرطبي وغيره‏.‏

وممن اختار عدم الوجوب ولو أدّى عدم الأكل إلى الهلاك أبو إسحاق من الشافعية، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهم اللَّه وغيرهم، واحتجّوا بأن له غرضًا صحيحًا في تركه وهو اجتناب النجاسة، والأخذ بالعزيمة‏.‏

وقال ابن قدامة في ‏"‏المغني‏"‏ في وجه كل واحد من القولين، ما نصه‏:‏ وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يجب وهو قول مسروق، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي‏.‏

قال الأثرم‏:‏ سئل أبو عبد اللَّه عن المضطرّ يجد الميتة ولم يأكل، فذكر قول مسروق‏:‏ من اضطر فلم يأكل ولم يشرب دخل النار‏.‏ وهذا اختيار ابن حامد، وذلك لقول اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏، وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة، وقال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏؛ ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللَّه فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال‏.‏

والثاني‏:‏ لا يلزمه؛ لما روى عن عبد اللَّه بن حذافة السهمي صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرًا ممزوجًا بماء، ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام، فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته، فأخرجوه فقال‏:‏ قد كان اللَّه أحلّه لي؛ لأنّي مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام؛ ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص؛ ولأن له غرضًا في اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة،

وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه‏.‏

وقد قدمنا أن أظهر القولين دليلاً وجوب تناول ما يمسك الحياة؛ لأن الإنسان لا يجوز له إهلاك نفسه، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ هل يقدم المضطر الميتة أو مال الغير ‏؟‏

اختلف العلماء في ذلك‏:‏ فذهب مالك إلى أنه يقدم مال الغير إن لم يخف أن يجعل سارقًا ويحكم عليه بالقطع‏.‏ ففي ‏"‏موطئه‏"‏، ما نصه‏:‏ وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد ثمرًا لقوم أو زرعًا أو غنمًا بمكانه ذلك ‏؟‏‏.‏

قال مالك‏:‏ إن ظن أن أهل ذلك الثمر، أو الزرع، أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقًا فتقطع يده، رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يردّ جوعه ولا يحمل منه شيئًا، وذلك أحبّ إليّ من أن يأكل الميتة‏.‏

وإن هو خشي ألا يصدقوه، وأن يعد سارقًا بما أصاب من ذلك؛ فإن أكل الميتة خير له عندي، وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة، مع أني أخاف أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة أموال الناس وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار‏.‏ قال مالك‏:‏ وهذا أحسن ما سمعت‏.‏ اهـ‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ إن حضر صاحب المال فحق عليه أن يأذن له في الأكل؛ فإن منعه فجائز للذي خاف الموت أن يقاتله حتى يصل إلى أكل ما يرد نفسه‏.‏

الباجي‏:‏ يريد أنه يدعوه أولاً إلى أن يبيعه بثمن في ذمته، فإن أبى استطعمه، فإن أبى، أعلمه أنه يقاتله عليه‏.‏

وقال خليل بن إسحاق المالكي في ‏"‏مختصره‏"‏، الذي قال فيه مبينًا لما به الفتوى عاطفًا على ما يقدم المضطر على الميتة وطعام غير إن لم يخف القطع، وقاتل عليه‏.‏ هذا هو حاصل المذهب المالكي في هذه المسألة‏.‏

ومذهب الشافعي فيها‏:‏ هو ما ذكره النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏، بقوله‏:‏ المسألة الثامنة‏:‏ إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير وهو غائب فثلاثة أوجه‏.‏ وقيل ثلاثة أقوال‏:‏ أصحها يجب أكل الميتة، والثاني يجب أكل الطعام، والثالث يتخيّر بينهما‏.‏

وأشار إمام الحرمين إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق اللَّه تعالى وحقّ الآدمي ولو كان صاحب الطعام حاضرًا، فإن بذله بلا عوض أو بثمن مثله أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه أو رضي بذمته لزمه القبول، ولم يجز أكل الميتة، فإن لم يبعه إلا بزيادة كثيرة فالمذهب والذي قطع به العراقيون والطبريون وغيرهم‏:‏ أنه لا يلزمه شراؤه ولكن يستحب، وإذا لم يلزمه الشراء فهو كما إذا لم يبذله أصلاً، وإذا لم يبذله لم يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه، أو خاف هلاك المالك في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة، وإن كان لا يخاف؛ لضعف المالك وسهولة دفعه فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبًا، هذا كله تفريع على المذهب الصحيح‏.‏

وقال البغوي‏:‏ يشتريه بالثمن الغالي، ولا يأكل الميتة ثم يجىء الخلاف السابق في أنه يلزمه المسمى أو ثمن المثل، قال وإذا لم يبذل أصلاً وقلنا طعام الغير أولى من الميتة يجوز أن يقاتله ويأخذه قهرًا، واللَّه أعلم‏.‏

حاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة أنه يقدم الميتة على طعام الغير‏.‏

قال الخرقي في ‏"‏مختصره‏"‏‏:‏ ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزًا لا يعرف مالكه أكل الميتة‏.‏ اهـ‏.‏

وقال ابن قدامة في ‏"‏المغني‏"‏، في شرحه لهذا الكلام ما نصه‏:‏ وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وزيد بن أسلم‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر، وشرب اللبن، وإن خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يأكل الطعام وهو قول عبد اللَّه بن دينار؛ لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذله له صاحبه‏.‏

ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه، والعدول إلى المنصوص عليه أولى؛ ولأن حقوق اللَّه تعالى مبنيّة على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنيّة على الشحّ والتضييق؛ ولأن حق الآدمي تلزمه غرامته وحقّ اللَّه لا عوض له‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ إذا كان المضطر إلى الميتة محرمًا وأمكنه الصيد فهل يقدم الميتة أو الصيد ‏؟‏‏.‏

اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وأبو حنيفة رحمهم اللَّه والشافعي، في أصح القولين‏:‏ إلى أنه يقدم الميتة‏.‏

وعن الشافعي رحمه اللَّه تعالى قول بتقديم الصيد وهو مبنيّ على القول‏:‏ بأن المحرم إن ذكّى صيدًا لم يكن ميتة‏.‏

والصحيح أن ذكاة المحرم للصيد لغو ويكون ميتة، والميتة أخف من الصيد للمحرم؛ لأنه يشاركها في اسم الميتة ويزيد بحرمة الاصطياد، وحرمة القتل، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء اللَّه في سورة ‏"‏المائدة‏"‏‏.‏

وممن قال بتقديم الصيد للمحرم على الميتة أبو يوسف، والحسن، والشعبي، واحتجوا بأن الصيد يجوز للمحرم عند الضرورة، ومع جوازه والقدرة عليه تنتفي الضرورة فلا تحلّ الميتة‏.‏

واحتجّ الجمهور بأن حلّ أكل الميتة عند الضرورة منصوص عليه، وإباحة الصيد للضرورة مجتهد فيها، والمنصوص عليه أولى، فإن لم يجد المضطر إلاّ صيدًا وهو محرم فله ذبحه وأكله، وله الشبع منه على التحقيق، لأنه بالضرورة وعدم وجود غيره صار مذكى ذكاة شرعية، طاهرًا حلالاً فليس بميتة، ولذا تجب ذكاته الشرعية، ولا يجوز قتله، والأكل منه بغير ذكاة‏.‏

ولو وجد المضطر ميتة ولحم خنزير أو لحم إنسان ميت فالظاهر تقديم الميتة على الخنزير ولحم الآدمي‏.‏

قال الباجي‏:‏ إن وجد المضطر ميتة وخنزيرًا فالأظهر عندي أن يأكل الميتة؛ لأن الخنزير ميتة ولا يباح بوجه، وكذلك يقدم الصيد على الخنزير والإنسان على الظاهر، ولم يجز عند المالكية أكل الإنسان للضرورة مطلقًا وقتل الإنسان الحي المعصوم الدم لأكله عند الضرورة حرام إجماعًا، سواء كان مسلمًا، أو ذميًا‏.‏ وإن وجد إنسان معصوم ميتًا فهل يجوز لحمه عند الضرورة، أو لا يجوز ‏؟‏ منعه المالكية والحنابلة وأجازه الشافعية وبعض الحنفية‏.‏

واحتجّ الحنابلة لمنعه لحديث‏:‏ ‏"‏كسر عظم الميت ككسر عظم الحي‏"‏، واختار أبو الخطاب منهم جواز أكله، وقال لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم، والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت، قاله في ‏"‏المغني‏"‏‏.‏

ولو وجد المضطر ءادميًّا غير معصوم كالحربي والمرتد فله قتله والأكل منه عند الشافعية، وبه قال القاضي من الحنابلة واحتجوا بأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع‏.‏ واللَّه تعالى أعلم‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ هل يجوز للمضطر أن يدفع ضرورته بشرب الخمر ‏؟‏ فيه للعلماء أربعة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ المنع مطلقًا‏.‏

الثاني‏:‏ الإباحة مطلقًا‏.‏

الثالث‏:‏ الإباحة في حالة الاضطرار إلى التداوي بها دون العطش‏.‏

الرابع‏:‏ عكسه‏.‏

وأصح هذه الأقوال عند الشافعية المنع مطلقًا‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه الظاهر إن التداوي بالخمر لا يجوز؛ لما رواه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏، من حديث وائل بن حجر رضي اللَّه عنه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طارق بن سويد الجعفي عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال‏:‏ إنما أصنعها للدواء، فقال‏:‏ ‏"‏إنه ليس بدواء ولكنه داء ‏"‏‏.‏ والظاهر إباحتها؛ لإساغة غصة خيف بها الهلاك؛ وعليه جلّ أهل العلم، والفرق بين إساغة الغصة وبين شربها للجوع أو العطش أن إزالتها للغصة معلومة وأنها لا يتيقن إزالتها للجوع أو العطش‏.‏

قال الباجي‏:‏ وهل لمن يجوز له أكل الميتة أن يشرب لجوعه أو عطشه الخمر ‏؟‏ قال مالك لا يشربها ولن تزيده إلا عطشًا‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل، وقاله ابن وهب‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ من غص بطعام وخاف على نفسه، فإن له أن يجوزه بالخمر، وقاله أبو الفرج‏.‏

أما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل‏:‏

وإذا قلنا‏:‏ إنه لا يجوز التداوي بها ويجوز استعمالها لإساغة الغصة فالفرق أن التداوي بها لا يتيقن به البرء من الجوع والعطش‏.‏ اهـ‏.‏ بنقل المواق في شرح قول خليل وخمر لغصة، وما نقلنا عن مالك من أن الخمر لا تزيد إلا عطشًا نقل نحوه النووي عن الشافعي، قال‏:‏ وقد نقل الروياني أن الشافعي رحمه اللَّه نص على المنع من شربها للعطش؛ معللاً بأنها تجيع وتعطش‏.‏

وقال القاضي أبو الطيب‏:‏ سألت من يعرف ذلك فقال الأمر كما قال الشافعي‏:‏ إنها تروي في الحال ثم تثير عطشًا عظيمًا‏.‏

وقال القاضي حسين في ‏"‏تعليقه‏"‏‏:‏ قالت الأطباء الخمر تزيد في العطش وأهل الشرب يحرصون على الماء البارد، فجعل بما ذكرناه أنها لا تنفع في دفع العطش‏.‏

وحصل بالحديث الصحيح السابق في هذه المسألة أنها لا تنفع في الدواء فثبت تحريمها مطلقًا واللَّه تعالى أعلم‏.‏ اهـ من ‏"‏شرح المهذب‏"‏‏.‏

وبه تعلم أن ما اختاره الغزالي وإمام الحرمين من الشافعية، والأبهري من المالكية، من جوازها للعطش خلاف الصواب وما ذكره إمام الحرمين والأبهري من أنها تنفع في العطش خلاف الصواب أيضًا، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

ومن مر ببستان لغيره فيه ثمار وزرع، أو بماشية فيها لبن، فإن كان مضطرًا اضطرارًا يبيح الميتة فله الأكل بقدر ما يرد جوعه إجماعًا، ولا يجوز له حمل شىء منه وإن كان غير مضطر، فقد اختلف العلماء في جواز أكله منه‏.‏

فقيل‏:‏ له أن يأكل في بطنه من غير أن يحمل منه شيئًا، وقيل ليس له ذلك، وقيل‏:‏ بالفرق بين المحوط عليه فيمنع، وبين غيره فيجوز، وحجة من قال بالمنع مطلقًا ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من عموم قوله‏:‏ ‏"‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا‏"‏، وعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏، ونحو ذلك من الأدلّة‏.‏